الجمعة، 18 يوليو 2008

مخاطر العولمة على الدول الضعيفة أو المستضعفة في الأرض

مخاطر العولمة على الدول الضعيفة أو المستضعفة في الأرض

العولمة مصطلح قديم جديد يندرج تحت مقولة: "أن يتخذ شيء ما بعداً عالمياً" أي يخرج عن دائرته المحلية ويتجاوزها إلى العالمية. وثمة فرق شاسع بين العولمة والعالمية إذ تحمل المعاني الجديدة للعولمة شراسة القوة العسكرية والاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية في أبشع صورها؛ في حين تحمل معاني العالمية الحوار الحضاري بين الثقافات، وتبادل النظرات والخبرات والإنجازات العلمية بما يعود بالفائدة والخير على البشرية جمعاء في فضاء المعرفة السيبراني الذي لا حدود له، والأكثر انفتاحاً وفهماً واعترافاً بالآخر وبقناعاته، وبخصوصيته، فالعالمية تؤالف بين البشر من خلال مفهوم أن الإنسان أخ الإنسان وأن ثقافات الشعوب، وعقولها تتلاقح فيما بينها، وتتفاعل من خلال الحوار والمثاقفة، وليس من خلال العدم والإلغاء، وأن كل ثقافة أو حضارة أخذت من الثقافات والحضارات السابقة ما يتيح لها الاستمرار في إشادة بنيانها الحضاري على خارطتها الجغرافية الممتدة فوقها، وأنه يستحيل على حضارة مهما بلغت من القوة أن تنهض بمفردها من فراغ، أو بمعزل عن التعاون والاعتراف بما سبقها أو بما يوازيها من ثقافات وحضارات مماثلة فوق هذا الكوكب. وأن فضاءات العلم والمعرفة مفتوحة على الجهات كلها، ومتاحة لكل الأمم والشعوب الساعية لاكتناه العلم والمعرفة، وليست حكراً على شعب أو أمة محددين، وأن العقل البشري عبر العصور على مدى التاريخ الإنساني شارك في إشادة تلك الحضارات، وأبقى لخاصية كل أمة علاماتها الفارقة التي تمايز ثقافتها عن ثقافة سواها وحضارتها عن حضارة غيرها من الأمم فلكل شعب ثقافته وهويته، ولكل شعب كامل الحق في الدفاع عن تلك الثقافة والتمسك بتلك الهوية لأنها تعبر عن أرومته وذاكرته الوطنية والقومية. إننا من خلال هذه الهوية نستطيع التعرّف إلى منجزات الشعوب في الماضي والحاضر والمستقبل، ومن خلال التمسك بها يصعب على الآخرين محوها أو إذابتها مهما بلغت درجة التفوق عليها ربما تنجرّ الثقافات الضعيفة المغلوبة على أمرها إلى تقليد ثقافة الغالب كما يقول ابن خلدون أحياناً لكنّ هذا التقليد لن يصل إلى درجة التخلي عن الهوية الثقافية بالكامل أو الانزياح عن الخارطة الجغرافية والمجال الحيوي الذي تشكلت فيه عبر مراحل التاريخ المختلفة، لأن لكل مرحلة تاريخية طابعاً ثقافياً محدداً تبعاً لقوانين السيرورة وذلك لا يعني إلغاء تلك العلامات الفارقة، والالتحاق كاملاً بثقافة الأقوى، وإعلان التبعية له، والاندماج في ثقافته، وإنما التأثر بشكل أو بآخر بثقافته وهذا ما أكدته حقائق التاريخ عندما تعرضت شعوب فقيرة مستضعفة لغزو شعوب قوية، وخضعت لهيمنتها وسلطانها فترة زمنية حاول فيها الغزاة المحتلون أن يدمجوا ثقافات الشعوب الخاضعة لهم في نسيج ثقافتهم الغازية، فلم يفلحوا، وبرز تحدي ثقافة الشعب المغلوب على أمره، في اللغة واللباس والغناء، والأعراس، والفولكلور والعادات والتقاليد الشعبية، تأكيداً على الشعور بالذات الوطنية والقومية، وإيماناً بالتصدي للثقافة الغازية الساعية لاحتوائها أو ابتلاعها.‏ 

غير أن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة في هذا المجال هو: هل تستطيع الهوية الثقافية للدول النامية ومن ضمنها الأقطار العربية التصدي لثقافة العولمة بصياغته الأميركية ذات الأنياب القاضمة لكل شيء يعترض سبيلها؟ وللإجابة نقول: من منظار تكافؤ القوى العسكرية والاقتصادية والسياسية لا مجال للمقارنة، فالدول النامية أو العربية، إذا ما حاولت مواجهة ثقافة النظام العالمي الجديد في صيغته الأميركية التي تندرج تحت عنوان ثقافة الاغتصاب بالقوة، وثقافة الرعب والتوحش، هي غير قادرة على ذلك إلا بشرط واحد، أن تواجه هذه العولمة الزاحفة لابتلاع الأخضر واليابس جماعةً وليس فرادى.‏ 

لقد أخذ النظام الجديد يطرح مقولات العولمة الأميركية على شعوب العالم أجمع بما فيها الشعوب الأوربية عبر ما تمتلكه الإدارة الأميركية من وسائل ضغط مادية وعسكرية اقتصادية وسياسية كلها مسخرة لتحقيق الهيمنة على العالم وأمركته وظهر بشكل جلي خلال العقد الأخير من القرن العشرين وبداية هذا القرن من الألفية الثالثة قدرة هذه الإدارة على تطويع القوى التي تشكل عائقاً في تحقيق هذه الهيمنة على القرار السياسي في مجلس الأمن والمنظمات الدولية الأخرى، تحت دعاوى سياسية وشعارات إنسانية كشف عنها الناقد والباحث الأميركي نعوم تشومسكي في كتابه الأخير الذي نشره تحت عنوان (النزعة الإنسانية العسكرية الجديدة) الذي شفع النزعة الإنسانية بصفة أخرى تقوم بمثابة إلغاء للأولى أو تحل محلها وهي العسكرية الجديدة، وما جرى في يوغسلافيا وفي أفغانستان والعراق مؤخراً يفضح الممارسات الأميركية، ويكشف عن أهدافها البعيدة في قهر الشعوب والهيمنة على مواردها، والتحكم بمصائر العالم أجمع.‏ 

من هذا المنطلق، ينبغي أن تكون قراءتنا للعولمة قراءة متمعنة للمخاطر التي تحيق بنا جراءها كقوة عسكرية واقتصادية وسياسية وثقافية تدلل على هيمنة استعمارية مقنعة بقناع عالمي وشعارات إنسانية براقة ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب لخداع العالم ودفعه باتجاه السير في ركابها ومسارها اللاإنساني. وما ينبغي الإشارة إليه في هذا السياق هو: "أن العولمة ليست إيديولوجيا وإن كانت تبدو ذات طابع من هذا القبيل فالإيديولوجيا موضوعها الأفكار، وهي نتاج وعي متكون. أما العولمة فهي تقوم من خلال عمليتي المحو والإحلال بتكييف واقع الحياة الاجتماعية لقبول هيمنة المنتج الرأسمالي. إلا أن العولمة قد تستعير من الإيديولوجيا بعضاً مما لها من مجتمعية المحيط ـ ولكن بمعنى النظام الشامل ـ فتحاول تأسيس العلاقات وإقامتها لا في مجتمع واحد، بل في مجتمعات تعمل على تنميطها من خلال علاقات الإنتاج والاستهلاك. ومن هنا فهي لا تمثل مرحلة من مراحل التطور التاريخي في حياة المجتمعات وواقعها ـ كما يكون الأمر حين ينشأ عن تفاعل الناس مع الحياة والطبيعة بمعناهما الشامل، أو من خلال الإنتاج الثقافي والفكري في أشكاله المتعددة التي تتداخل، وتتفاعل، ويؤثر بعضها في البعض الآخر، فتتحقق علاقات الناس أو يتم لقاؤهم في مستوى العقل ـ بل العولمة؛ شكل من أشكال الهيمنة التي تستبعد كل مرجعية، واقعية كانت أم ذاتية، إبقاءً على مرجعيتها الوحيدة (رأس المال) الذي يكون هنا هو الغالب والمهيمن بكل ما تفرضه الهيمنة من علاقات اجتماعية وثقافية للغالب الذي يراها أرقى من المغلوب، ويعمل بها ومن خلالها على تغيير نمط حياته وأساليب تفكيره وتتحدد الهيمنة (مفهوماً) كما نعنيها هنا بأشكال الفعل والتأثير الذي يسلب من الإنسان ذاتية الفعل، كما يسلب جوهر المعرفة الأصيلة، وهي على صعيد العلاقات الدولية كل علاقة في مستوى واسع من مستويات الثقافة تَفْرضُ فيها حضارة معينة قيمها على حضارة أخرى، أو تفرض المجتمعات المتغلبة بقوتها القهرية قيمها على أخرى ضعيفة أو مستلبة، حيث تتم عملية الاحتواء، والموافقة القهرية والانقياد القسري للثقافة المسيطرة وتأسيساً على ذلك نستطيع القول: "إن العولمة لا تقدم منظوراً للتقدم في بعده الإنساني على الرغم من اعتمادها العلم والتقنية بوصفهما خاصتين أساسيتين ومتحدتين تطبعان عصرنا بطابعهما ذلك أن فكرة التقدم تعبر في جوهرها عن مفهوم اجتماعي ـ تاريخي، بمعنى أن الفكرة ومضمونها الدال عليها هي حصيلة عملية اجتماعية تاريخية ذات صلة وثيقة بالتطور الاجتماعي الثقافي للإنسانية التي لا تنفك عنه هذه الفكرة وإنما تقدم شكلاً من أشكال التنميط العالمي في نموذج واحد هو النموذج الأميركي.‏ 

ومن هنا يتجلى الخطر الكبير الذي يحدق بنا جرّاء (ثقافة العولمة) التي أصبحت تشبه الجمجمة المرسومة على جدار أو لوحة تنذر بالرعب وخطر الموت، لأنها نتاج إنسان أشاد مدنيته على أنقاض الهنود الحمر وجماجمهم، ومخزونه الثقافي لا يتعدى في السياق التاريخي الخمسمئة سنة، فهو لم يتمثل جوهر الثقافات والحضارات الإنسانية الحية الضاربة في عمق التاريخ، لا بل هو أصبح يكنّ العداء إليها لأنها في الطرف النقيض، فهي مبرمجة وفق متطلبات نظام العولمة الذي من أولى أغراضه هندسة الثقافات البراغماتية الاستهلاكية وتغيير طرائق البشر وعقولهم بما ينسجم والأهداف الأميركية القائمة على احتكار السوق والتحكم بالعالم اقتصادياً وسياسياً وثقافياً من خلال مقولة: نحن نختار لك ودعنا نفكر نيابة عنك، واستسلم لأمرنا تكون في أمان من القتل.‏ 

لا بد من الإشارة في هذا السياق إلى وجه تبادل الأدوار والتوليف العام بين العولمة الاقتصادية والعولمة السياسية والعولمة الثقافية والعولمة الإعلامية لتعزيز السيطرة الأحادية (النموذج الأميركي) وتعميم ثقافته بعد تحطيم الثقافات القومية التي تعتد بخصوصيتها وأصالتها.‏ 

إذن نظام العولمة مؤلف من معادلة أحد طرفيها نظام القوة. والطرف الآخر نظام الهيمنة، وثمة علاقة جدلية بين الحدين. ومن هنا ينبغي على الدول الضعيفة التي تسير على طريق النمو أو الفقيرة التي تعد من دول الجنوب أن تعيد النظر في مقولاتها وأن تحدث تغييراً في رؤيتها للعالم لمناهضة العولمة ومواجهة مخاطر العولمة الزاحفة باتجاه هذه الشعوب الفقيرة المستضعفة في الأرض قبل سواها. وأن تبني ثقافاتها بناء اجتماعياً وعلمياً متيناً يستطيع مجاراة العولمة ومواجهتها وتلافي أخطارها، فلا الانعزال والتقوقع على الذات يمنع مخاطر العولمة ولا الذوبان في مستنقعها يجدي ولا إدارة الظهر لها كأنها لم تفرض نواظمها في كثير من البلدان بنافعٍ أيضاً، بل بناء الذات بناء علمياً وثقافياً جديداً، وفق مفهومات ومتطلبات الزمان والمكان، ورفض التخلف بكل رواسبه المعيقة للتقدم والتطور والتحديث عقلاً وروحاً هو الطريق السليم لتجنب مخاطر العولمة لنعترف أن الدافع العربي الراهن، والثقافات السائدة في معظم الدول النامية لا تمتلك المقومات الذاتية والموضوعية لمواجهة مخاطر العولمة الأميركية بالتحديد. فهي ثقافات سائدة، مستلبة، رخوة، موجهة أو مجيّرة لصالح الحكومات شبه البائدة لذلك هي أعجز من أن تنتج وعياً جماهيرياً يحمل رياح التغيير والتطوير، ولذلك لا بدّ من تغيير البنى المؤسسية والعقلية التي اعتمدتها تلك الثقافات التي تحدّ من انعتاق العقل، وانفتاح الثقافة، وانطلاق الإبداع إلى الآفاق الرحبة بكامل الحرية والمسؤولية والثقة بالنفس، والتفاؤل بالمستقبل بعيداً عن الإرهاب الفكري والتزمت والتعصب والانغلاق واليأس والتبعية.‏ 

"فإذا كان الأمر في واقع كهذا يستدعي وجود ثقافة مناهضة للسلفية والتبعية فإن إثارة موضوع التحرر من هذين العنصرين اللذين يشكلان عامل إعاقة لحياة الثقافة وتطور المجتمع يطرح أسئلة مهمة وملحة يلخصها عالم الاجتماع المعروف الدكتور حليم بركات في التالي:‏ 

كيف يمكن تجاوز حالة الاغتراب والتحرر من التبعية، وذلك الارتباط ا لتبعي بالنظام العالمي؟ وهل يمكن تحقيق حضارة جديدة من دون تغيير البنى الاجتماعية الاقتصادية ـ السياسية السائدة؟ بل ماذا تعني الحضارة الجديدة وما مضمونها؟ ثم ما هي الغايات الأساسية التي نسعى إليها؟ وما الأهداف القريبة والمتوسطة والبعيدة المدى المستمدة منها؟ هل نفهم أن عملية التغيير هي عملية تغيير الثقافة وبها نبدأ؟ هل مشكلة المجتمع العربي هي مشكلة ثقافية بالدرجة الأولى أم مشكلة نظام وبنى اجتماعية تنبثق منهما هذه الثقافة؟ ما هي استراتيجية التغيير الأكثر فعالية؟ إن الإجابة عن هذه الأسئلة تضعنا في مواجهة المشكلة، لا بل وجهاً لوجه أمام أزمة الواقع العربي الراهن، وواقع معظم الشعوب والدول الفقيرة التي تعاني من تبعات الاستعمار القديم وما زرعه بين ظهرانيها من أمراض، وعلل تعمل على إحباط أحلام التغيير، وتسعى لبث الفرقة بين أبناء المجتمع الواحد، خاصة في المجتمعات التعددية الشديدة التنوّع. وتدفعنا في الوقت ذاته لمراجعة أوراق التراث القديمة، وقراءة الواقع قراءة موضوعية على ضوء المتغيرات والتحولات العالمية التي لا يجوز إسقاطها من الحسبان، والبدء بإعادة إنتاج الذات الواعية المبدعة القادرة على الدخول وإلى الألفية الثالثة من بابها الواسع بعقلانية وموضوعية وحسابات دقيقة. "فإذا كانت العولمة قد طرحت التحدي للثقافات القومية فإن الاستجابة لا تكون بالنسبة للثقافة العربية إلا من خلال تمثل روح النهضة العربية وآفاق المشروع النهضوي العربي كما تمثل في أطروحات الفكر القومي منذ القرن التاسع عشر.‏ 

إنه المشروع التأسيسي لرؤية تاريخية حضارية قوامها العلم والعقل والإبداع والحرية والوعي والثقة بالذات والتفاؤل بالمستقبل وتعزيز الهوية الثقافية التي تؤكد حضور الأمة ثقافة وكياناً حضارياً وعمقاً تاريخياً وجغرافياً يشكل منطلقاً لرؤية جديدة وثقافة جديدة حدودها أبعد من آفاق فضاء المعرفة السيبراني، ومقوماتها أعمق من التراث الذاتي وحده بل تمتد إلى خزائن التراث العالمي برمته. ثقافة متحررة من الوهم جوهرها حرية الفكر نقداً وخلقاً وإبداعاً، وعمادها المعرفة وامتلاك مفاتيح المعلوماتية بجدارة وليس عن طريق الاستجداء. لأن ثورة المعلوماتية والإعلامي وسرعة الاتصالات والمواصلات المذهلة ليست متاحة بالتساوي لجميع الشعوب والأمم، كما هي أيضاً ليست متاحة بالتساوي بين أبناء المجتمع الواحد، فهي "قبل كل شيء أداة فعالة في خدمة من ينتجها ويملكها ويديرها قبل أي طرف آخر على حسابه، لذلك تهيمن أميركا على العالم في الوقت الحاضر، وقد بلغت الهيمنة شأواً أفقدت معه المجتمعات المتخلفة الكثير من مناعتها واستقلاليتها وسيادتها وقدرتها على التحكم بمصيرها. والوطن العربي هو من بين أكثر أجزاء العالم تعرّضاً لهذه الهيمنة. وكلما اقترب البلد من مركز الجاذبية في الثورة المعلوماتية والإعلامية أصبح جزءاً من آلية الهيمنة ودخل مدارات لا يحيد عنها، ليجد نفسه وقد فقد قدرته على أن يكون سيد نفسه، وصانع تاريخه وخاصة تلك المجتمعات المهددة بالانقسامات الداخلية".‏ 

فهل يعي العرب والشعوب الأخرى المغلوبة على أمرها هذه المسألة قبل فوات الأوان؟ أم يستمر الحال على منواله؟ ذلك متروك للآتي من الأيام.‏ 

د. حسين حموي


هناك تعليق واحد: